في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان دور المرأة محصوراً داخل البيت. وفي النصف الثاني منه، وبتأثير من الإرساليات التبشيرية الأجنبية، بدأت المرأة البيروتية بالخروج من تخلّفها الاجتماعي والثقافي، بعد أن تأثرت بالغرب الأوروبي، خصوصاً بعد أن افتتحت المدارس المتعددة، منها تأسيس الأميركيين أول مدرسة للبنات في بيروت عام 1834، في حين أسس اليسوعيون أول مدرسة للبنات عام 1844، وأسست السيدة بوين طمسن المدرسة الإنكليزية للبنات عام 1860.
مدارس بيروت وجبل لبنان
أنشئت مدرسة لتدريب المعلمات للمدارس الابتدائية والثانوية. ثم تأسست الكلية الإنجيلية للبنات. ومنذ ذلك الحين، انتشرت المدارس الكثيرة في بيروت وجبل لبنان من أجل تعليم البنات، كما تأسست جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية عام 1878، وأنشأت أول مدرسة لها للبنات. وهذا التنافس بين الأجانب والوطنيين، دفع الدولة العثمانية للاهتمام بدورها بإنشاء المدارس الرسمية، ومنها مدرسة البنات العثمانية في بيروت. وقد حثّ الشيخ عبد القادر قباني المسلمين على التعلّم، ومجاراة الطوائف الأخرى بالاستفادة من العلوم الحديثة. وشدد على ضرورة التقدم وترك أساليب التعليم القديمة. وعند تأسيس جمعية المقاصد الإسلامية كان همُّ المؤسسين إرسال بعض الطلاب لدراسة الطب في مصر.
وشاركت المرأة البيروتية في تأسيس الجمعيات والمدارس الوطنية لتعليم البنات، مثل “جمعية زهرة الإحسان ومدرستها لتعليم البنات الفقيرات مجاناً”. كما أسست الراهبة الأورثوذكسية لبيبة جهشان، وهي من مواليد فلسطين، مدرسة زهرة الإحسان للبنات عام1881، وكانت تحت إشراف البيروتية إملي سرسق، التي شاركت بدورها في تأسيس مستشفى سان جورج عام1887. وتخليداً لذكراها، أقامت لها جمعية زهرة الإحسان تمثالاً من الرخام داخل باحة المدرسة عام 1914، فكان أول تمثال لامرأة بيروتية.
“تهذيب الفتاة”
كما أسست أوجني سعد جمعية “تهذيب الفتاة” عام1907، لتعليم الفتيات الفقيرات، وكان لها فرعان: أحدهما في الشويفات، وقد رأسته بنفسها، والآخر رأسته ملكة بارودي ثم زاهية سعد. وأنشأت هذه الجمعية داراً لحضانة الطفل في محلة رأس النبع داخل بيروت.
كما شاركت المرأة البيروتية في المؤتمرات الدولية. فحضرت هنا كسباني كوراني “مؤتمر النساء العمومي” في شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية عام 1893. ومثّلت الكسندرا افرنيو المرأة البيروتية في “مؤتمر السلم العام” الذي عقد في باريس عام 1900.
ومع ذلك، كان البيروتي المسلم بشكل عام، ينظر إلى البنات والنساء المتحررات باستهزاء واحتقار، ويعتبرهنّ “مستهترات”، رغم أن الإسلام دعا إلى تحرر المرأة ومشاركتها الرجل في كثير من الأمور، ولكنها التقاليد والعادات. وهذا ما دعا جريدة “أبابيل” لتنشر مقالاً تحت عنوان “البنات المسلمات في النوادي الليلية”، لأن عنبرة سلام، ابنة سليم علي سلام، وكانت لا تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، حاولت حضور حفلة في نادي مدرسة الأحد، حيث كانت أستاذتها جوليا طعمة ستلقي خطاباً، علماً أنها لم تحضر الحفلة وعادت إلى البيت.
جوليا طعمة
ويقودنا الحديث إلى السيدة جوليا طعمة، التي عرض عليها سليم علي سلام استلام إدارة المدرسة الأولى للمقاصد، وإطلاق يدها بكل ما تراه مناسباً من إصلاح، لما كان لها من خبرة في التعليم بمدارس مختلفة قبل ذلك. وكما كان العرض يعد بادرة جريئة من قبل الجمعية، فقد كان في الوقت ذاته مغامرة من صبية مسيحية أن تقبل العمل في وسط المحيط الإسلامي، بل في قلب البسطة والمصيطبة. وقوبلت من الجميع بالتقدير والاحترام، كما أنها أقبلت على عملها بقلب مفتوح، ونفسٍ مُحبة لخير كل من تتصل به من تلميذات ومعلمات وأعضاء جمعية، حتى إنه كان لها تأثير السحر على تلميذاتها، بل وعلى أهالي التلميذات ممن كانت تتصل بهم. وبلغ من تعلُّق التلميذات بها أن كانت كلمة صغيرة منها، أو إيماءة لطيفة تبديها، كافية لتقوم التلميذة بكل ما تؤمر به بما يرضي مديرتها.
ووصف سليم علي سلام، وهو أحد نواب بيروت، وضع المرأة البيروتية عند نشوب الحرب العالمية الأولى، في خطبة ألقاها في “مجلس المبعوثان” الثلثاء 14 تموز1914، منتقداً المدارس الرسمية وتحديداً مدرسة البنات العثمانية في بيروت، بقوله: “… أما مدارس البنات… إنها لفي الدرك السفل، المرأة قوام الحركة الأدبية وركن الهيئة الاجتماعية، ما دامت منحطة، فالأمة تظل منحطة أيضاً. إن مدرسة البنات العثمانية في بيروت، لم تتخرج فيها منذ إنشائها إلى الآن تلميذة واحدة جديرة بالاحترام العلمي، بخلاف مدارس البنات الأجنبية، التي يتخرج فيها كل عام عدد كبير من الفتيات الراقيات”.
ولا شك في أن هذا الخطاب كان نقضاً بظاهره للمدارس الرسمية، وإنما بمضمونه كان رداً على ما فعله الوالي أحمد حمدي باشا، المتمثل بإصدار الأمر بحل جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وإلحاقها بالمعارف، ثم سماها “شعبة المعارف الأهلية.
المرأة في الأعمال الاجتماعية
لعب والي بيروت عزمي بك دوراً كبيراً خلال الحرب العالمية الأولى (1915- 1918) في رفع مستوى المرأة البيروتية. وأخذ يعمل على إشراك المرأة في الأعمال الاجتماعية عن طريق الجمعيات والأندية النسائية. فتأسست “جمعية يقظة الفتاة العربية” عام 1914، وكانت برئاسة نجلاء بيهم، وتضم أمينة حمزة، عادلة بيهم، وداد المحمصاني. وعام 1916، قام والي بيروت بتأسيس الملاجئ لاحتضان الصغار وتعليمهم مختلف الحروف والعلوم. فتعاون مع سيدات المجتمع البيروتي. ثم أنشأت المرأة البيروتية أول نادٍ للفتاة المسلمة هو “نادي الفتيات المسلمات” عام1917، وكان برئاسة عنبرة سلام، ويضم: ابتهاج قدورة، أمينة شريف، روحية الخالدي، عادلة بيهم، فاطمة بيهم، نجلاء بيهم، وعقيلتي كمال باشا المخيش ومحمد بك حمادة.
وكان أن خرجت الفتاة البيروتية من عزلتها الاجتماعية، لتحضر الاجتماعات والندوات، في هذا النادي الذي ألحقت به مدرسة مجانية لتعليم الفقيرات. وأقيمت حفلات مختلطة من الجنسين نتيجة استمرار عملية تحرر المرأة وازدياد إقبالها على العلم والمعرفة، إلى أن أنشأت الآنسة ماري كساب مدرسة ابتدائية مختلطة للذكور والإناث عام1917، وقد أطلقت عليها اسم المدرسة السورية. هذا فضلاً عن مصادرة السلطات للكليات والمدارس الأجنبية المقفلة بسبب اشتراك الدول التابعة لها في الحرب ضد الدولة العثمانية. وبذلك تسلمت بعثة من المعلمات التركيات برئاسة خالدة أديب وفيكار عثمان، كلاً من دير الناصرة ومدرسة البنات الفرنسية وقسماً من كلية القديس يوسف، فحولتها إلى مدارس للبنات لتعليم اللغة التركية. وأقامت مشغلَين لتشغيل النساء المحتاجات، أحدهما برئاسة ليندا سرسق والثاني برئاسة سنية حمادة.
تحرر المرأة
كانت سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى، مهمة لتحرر المرأة العربية، فثارت في نفوس فتيات عربيات رغبة في إنشاء جمعية نسائية غايتها مساعدة الفتيات العربيات على التعلم، ومعونة المتفوّقات منهنّ على إكمال تعليمهنّ بكل وسيلة ممكنة. وكان ذلك في شهر آذار عام 1914. وانتُخبت في الاجتماع عضوات كان من بينهن ابتهاج قدورة وأمينة حمزة وعادلة بيهم وسواهنّ. وبعد عدة اجتماعات وُضع دستور لجمعية اتُّفق على تسميتها “يقظة الفتاة العربية”، تدليلاً على أنها من أوليات الجمعيات النسائية.
انتُخبت عنبرة سلام الخالدي كاتبة للمراسلات. وكلّفت أيضاً بإرسال الرسائل إلى كل شخصية معروفة في البلاد العربية لتبشّرهم بخطوة إنشاء الجمعية، وطلب العون المادي والمعنوي. وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى في آب عام 1914، توقفت الحركة، فتشتّت شمل أعضاء الجمعية بالهجرة. كانت الحرب العالمية الأولى بمثابة مرحلة انتقالية، ايقظت المرأة البيروتية بشكل خاص والمرأة العربية بشكل عام.
في فترة الانتداب الفرنسي، أقبلت النساء على التعليم، وبرزت سهيلة سعادة كأول قابلة بيروتية تتخرج من لندن في العام 1926. كما تُعتبر كاترين شامية أول عالمة لبنانية في علم الذرة، وقد نالت الدكتوراه في الفيزياء والكيمياء من جامعة جنيف عام 1913. وكانت نهيل حبّوب أول فتاة تتخرج كطبيبة أسنان في الجامعة الأميركية عام1931، وسنية زيتون أول امرأة لبنانية تنتسب إلى نقابة المهندسين في بيروت عام 1942.
دورها في الاستقلال
وكان للمرأة البيروتية مشاركة فاعلة في التظاهرات الداعية إلى استقلال لبنان. وكانت في مقدمة التظاهرات، التظاهرة التي خرجت من الأشرفية بقيادة إيلين بسترس، والتقت بتظاهرة أخرى كانت بقيادة ابتهاج قدورة. وأخذت التظاهرة النسائية تجوب شوارع بيروت، وتتوقف عند دور المفوضيات العربية والأجنبية، مؤكدة موقف المرأة اللبنانية المناهض للانتداب الفرنسي. وشاركت في التظاهرة كلٌّ من: فايزة الصلح زوجة الرئيس رياض الصلح، منيرة الصلح زوجة وحيد الصلح، زلفا شمعون زوجة كميل شمعون، نازك العبد زوجة محمد جميل بيهم، لور تابت زوجة الرئيس بشارة الخوري، نجلا صعب، أنا تابت، هناء النجار، رينيه تقلا، نجلاء جورج الكفوري، إيفا شارل مالك. وقد انضمت مئات النساء إلى التظاهرة. وعند وصولها إلى دار الفتوى استقبلها المفتي الشيخ محمد توفيق خالد، رغم وجود الجنود السنغاليين وتوجيههم السلاح نحو التظاهرة.
وعند وصول التظاهرة إلى القنصلية الأميركية، حاول بعض الجنود السنغاليين منعها من التقدم، فانبرت لهم ماغي مصور، كما واجهت منيرة الصلح الجنود السنغاليين الذين حاولوا ضربها.
وبعد نيل لبنان استقلاله، تعزز دور المرأة، ما ساهم في تطور حضورها السياسي. فبتاريخ 4 تشرين الثاني من العام 1952، صدر المرسوم الاشتراعي رقم 6. وجاء هذا المرسوم بعد تحركات عديدة للجنة التنفيذية للهيئات النسائية في لبنان. وأفسح المرسوم المذكور للمرأة اللبنانية أن تكون ناخبة ومنتخبة، لكنه اشترط لقيدهن في القوائم الانتخابية حيازتهنّ الشهادة الابتدائية، ليُلغى هذا الشرط لاحقاً بموجب المرسوم رقم 37 تاريخ 18 شباط من العام 1953، لتتساوى المرأة مع الرجل في كل ما يتعلق بالانتخابات النيابية.
بعد شهرين وثمانية عشر يوماً على صدور المرسوم رقم 6، جرى تعيين ثلاث سيدات بيروتيات في عضوية مجلس بلدية بيروت، بتاريخ 22 كانون الثاني من العام 1953، بسبب عدم فوز أي امرأة بيروتية في الانتخابات البلدية. والنساء الثلاث هن: ابتهاج قدورة، لور تابت وألين ريحان. وفي العام 1961، جرى تعيين سيدتين في مجلس بلدية بيروت برئاسة أمين بيهم وهن: نينا طراد الحلو وهيفاء طبارة.
كانت إميلي فارس أول امرأة تترشح للانتخابات النيابية في لبنان عن دائرة زحلة في العام 1953. وعادت إلى الترشُّح عن دائرة بعبدا في العام 1972. وكانت لور تابت أول بيروتية تترشح عن المقعد الماروني في الدائرة الأولى لبيروت في العام 1957، في حين كانت منيرة الصلح أول بيروتية مسلمة تترشح مرتين عن الدائرة الثالثة في بيروت في انتخابات سنتي 1960 و1964. كما شاركت نهاد جرمانوس سعيد في انتخابات جبيل الفرعية عام 1965 عن المقعد الشاغر بوفاة زوجها أنطوان سعيد.
ميرنا البستاني
كانت ميرنا البستاني أول سيدة تدخل المجلس النيابي في 28 نيسان من العام 1963، بعد مقتل والدها إميل بستاني بسقوط طائرته في البحر. وبعد الحرب، وبموجب المرسوم الذي نشر في الجريدة الرسمية في 13 حزيران من العام 1991، جرى تعيين السيدة نائلة نجيب عيسى الخوري (نائلة معوض)، وفي انتخابات العام 1992 ، فازت ثلاث نساء هن: مهى قسطنطين الخوري أسعد ونائلة معوض وبهية الحريري. وفي انتخابات العام 2000، كانت غنوة جلول أول امرأة بيروتية تفوز في الانتخابات عن الدائرة الثالثة في انتخابات بيروت.
وفي الانتخابات النيابية للعام 2005، استمر حضور المرأة اللبنانية خجولاً في البرلمان اللبناني، فانحصر بكل من بهية الحريري، جيلبرت زوين، ستريدا جعجع، نائلة معوض، نائلة تويني- بعد اغتيال والدها الصحافي جبران تويني-. واستمر الحضور خجولاً في انتخابات العام 2009. ومردّ ذلك إلى الانقسام السياسي الحاد في لبنان. ورغم المطالبات العديدة بتخصيص كوتا نسائية في الانتخابات النيابية، جرت انتخابات العام 2018، بعد مرور فترة طويلة من التمديد للمجلس النيابي، وتمثلت المرأة اللبنانية في البرلمان عبر بهية الحريري، ستريدا جعجع، ديما جمالي، رلى الطبش، عناية عز الدين، بولا يعقوبيان.
أما على الصعيد الحكومي، فقد كان لافتاً تعيين أول وزيرة داخلية من النساء في لبنان والعالم العربي ألا وهي ريا الحسن. وكانت مشاركة بارزة من الصحافية البارزة ماي شدياق في وزراة الدولة لشؤون التنمية الإدارية. كما شاركت الدكتورة عناية عز الدين في الحكومة اللبنانية. وبعد ثورة 17 تشرين في العام 2019، وتشكيل الحكومة اللبنانية الحالية، كانت للمرأة اللبنانية مشاركة بارزة عبر ست وزيرات، هن: نائبة رئيس الحكومة زينة عكر ووزيرة العدل ماري كلود نجم، ووزيرة الإعلام منال عبد الصمد، ووزيرة العمل لميا يمين الدويهي، ووزيرة الشباب والرياضىة فارتينيه أوهانيان، ووزيرة شؤون المهجرين غادة شريم.
وأخيراً تقدمت عضو المجلس النيابي ديما جمالي باقتراح قانون يتعلق بالكوتا النسائية.
(النهار)