رجال الخدمة المنزلية
في مشهد غير معهود في لبنان، ظهرت في طرابلس وبيروت “انتفاضة” على الأعراف السائرة: رجال يمتهنون الخدمة المنزلية بدل العاملات المنزليات الأجنبيات اللواتي غادرن لبنان هاربات من عدم قدرة اللبنانيين على دفع أجورهن التي كانت زهيدة، وتجاوز مقدارها راتب موظف رسمي. كسر أولئك الرجال التقاليد، لتوفير قوت يومهم وتأمين أدنى مقوّمات الحياة.
يجول خضر أحمد الشاب الثلاثيني بدلوٍ وممسحة شوارع طرابلس، باحثاً عن فرصة عملٍ وعارضاً خدماته المنزلية. عمل في مجالاتٍ عدة توزّعت بين مطاعم ومقاهي منطقته، ثمّ انتقل إلى مهنة الاعتناء بالمسنين والمرضى. وبعد موت آخر مريض توقّف عمله فواجه البطالة والعوز والحاجة. فهو ابن عائلة فقيرة، لم تتح له فرصة التعلّم.
يقيم خضر مع والديه، وطفلين لم يتعديا الخامسة من زوجته المريضة والمحتاجة إلى أدوية دائمة. وبعد مشاهدته على وسائل التواصل الاجتماعي فيديو يصور عاملات أجنبيات في مطار بيروت، تهزأن بشعب لبنان وبما وصلت إليه عملته، قائلات “تعو اشتغلوا عنّا”، قرّر شراء دلو وممسحة والتخلي عن كل أعراف بيئته، للعمل في تنظيف البيوت والمكاتب.
شحاذ بلا رجولة
وأنشأ خضر صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعرض صورته حاملاً دلوه وممسحته طالباً التواصل معه هانفيًا. وزوّد صفحته بصور تثبت رغبته في الحصول على أي فرصة عمل. عرض صوره وهو ينظف البيوت، فتفاعل معه بعض رواد التواصل الاجتماعي وتبادلوا صوره تلك. وهو تلقى الكثير من الكلمات الجارحة التي تحط من رجولته وشرفه الرجولي. ثم وصفه آخرون بالشحاذ والمتسول.
ويشرح مقدار التنمر الذي يتعرّض له يومياً، مؤكداً أنه لا يهتم بذلك ولا يشعر بأي إهانة لرجوليته. فوضعه المتردي وحال أهله وزوجته الصحيّة تفرض عليه قبول أي مهنة لتأمين ضرورات حياتهم. وعرض على إحدى النساء أن ينظف بيتها مقابل أن تشتري له أدوية زوجته. وهو يطلب 200 ألف ليرة مقابل 6 ساعات عمل، إضافة إلى تكلفة المواصلات التي تتراوح بين 100 – 150 ألف ليرة. وعلى الرغم من اعتراض بعض النساء على أجرته العالية، يعدد مصاريفه الشهرية التي تنقسم بين 500 ألف لإيجار البيت، وتكاليف الطعام والشراب والطبابة لعائلته تقضي نهارها وليلها على ضوء لمبة التشريج بعد عجزها عن دفع اشتراك المولد الكهربائي.
وتعرّض خضر للاستغلال. فبعضهم لم يعطه سوى 35 ألف ليرة بعد تنظيفه بيوتهم لست ساعات متواصلة. واتصل به أحدهم للعمل في الدورة. وعندما وصل حاول الاتصال به فلم يجبه. وهو يصرخ بأنه لم يعد يهتم بالبرستيج، ولا يحاول جمع الاستعطاف، بل يريد مقاومة عجزه عن تأمين طبابة عائلته وحياة كريمة لأطفاله، من دون أن تحرجه مهنته التي يعتبرها “جهاداً” في سبيل عائلته.
عامل منزلي بالساعة
أما عادل، فهو نموذج آخر لإقدام الرجال على مهنة الخدمة المنزلية: في أواخر العقد الثاني من عمره، أعزب، ويعتني بوالدته المصابة بالسرطان، وهو وحيدُها. عمل في خدمة الدليفري وتوقف عنها، بعدما سُرقت دراجته النارية في وضح النهار. وعلم بأن سيدة تقطن بقرب بيته، تبحث عمن يعاونها في بيتها مقابل بدل يومي، لأنها عاجزة بسبب كسر في حوضها، فلم يتردّد أبداً بالتواصل معها واتفقا على تنظيف بيتها ثلاث مرات في الأسبوع.
وعلى خطى خضر، عرض عادل خدماته في منطقته. ولكنه لم يلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ربّما لأن الموضوع يسبب له الإحراج. يبدأ عمله في السابعة صباحاً. يقصد بعض البيوت والمكاتب الصغيرة، بعضها يدفع له تكلفة أتعابه مع حبّة مسك، وآخرى تتبرع له بحصص غذائية أو بأدوية تحتاجها والدته. وعادل يمثّل الشاب الكادح: يتنقل بالفان للوصول إلى زبائنه، وأحياناً يمشي مئات الأمتار على قدميه لتوفير بعض المال.
يعمل أحياناً حتى السابعة مساءً. لا يتذمّر. ولا ينكر أنه يعاني من بعض التنمر في محيطه الضيّق. من الجمل التي أوجعته وبقيت في باله، قول أحد الشبان له: “ستسعد بك زوجتك كثيراً وستتبادلون الأدوار. أنت تعمل في المنزل وهي خارجه”. شعر بالإحراج، ولكنه يفضّل المهن النسائية على أن يصبح عاطلاً من العمل ويمدّ يد التسول.
رفض رجولي
وعن المشاكل التي يواجهها يومياً يضيف أن بعض النساء تتصلن به ولكنهن سرعان ما تعاودن الاتصال مجدداً معتذرات بسبب رفض أزواجهن تشغيل رجل. فرجال كثيرون يرفضون أن يدخل رجل إلى بيوتهم ويفضلون النساء.
تتطلب هذه المهنة تعباً جسدياً كبيراً. ويتمنى عادل أن يجد مهنة أخرى تضمن له ولوالدته راتباً شهرياً.
المصدر: فرح منصور – المدن