الى متى ستبقى بيروت تحصى قتلاها والعداد لا يستكين؟
مشهد الأهل الباحثين عن اولادهم في ركام المدينة المنكوبة لا يفوقه حسرة سوى مشهد الأبناء الضاربين في بور الأرض ينادون على اهل فقدوهم.
الصراخ المترامي ، الضياع المفزع، الهدم المرعب كان سمة ذاك المساء المحتشد بالألم والعويل والفاجعة الكبرى.
تلك الأم المفزوعة من قدر مدينة تصرخ تائهة في شوارعها .تخبط على رأسها وتنادي المارين والروح مسحوقة والصوت والسؤال يحمل كدر الزمن كله.
” حدا شفلي ابني ” اقترب منها الجمع التائه ، المصاب بالوهلة المريرة من هو ابنك يا حجة؟ اين كان؟
“ابني حلو ومليح الوجه عيونو عسلية مدلل ومغنج. حدا شافو؟ “.
هل كانت هذه الام تطبخ في منزلها تنتظر عودة ابنها حمد العطار من العمل قبل ان تتزلزل الارض وتسقط السماء فركضت باتجاه وسط بيروت حافية او منتعلة، تتبع خفقات قلبها الذي انتزع منه صمام الأمان. هكذا ركض كثيرون بخطى قوية جريئة وخائفة انهم على اهبة المصير الذي ينقي الحياة من الموت .
كانت قد اخبرتني سيدة فقدت زوجها في حادث مماثل ولا حادث مماثل لنكبة بيروت اليوم انها ام النكبات جميعا . قالت لي عندما سمعت بالانفجار وركضت لأتفقد زوجي ركضت حافية بالرغم من تقدمي بالسن الا اني شعرت بشيء ما يدفعني ويعطيني اقداما اخرى سريعة وعندما وصلت ووجدت ان الروح تلفظ انفاسها تحت الركام شللت ومن يومها لم تعد ارجلي تحمل جسدي.
كم ام سيبح صوتها بعد ان خسرت ابنها او ابنتها وكم جسد سينهار فوق خسارة الاحباء.
ستبقى ام حمد العطار ايقونة الوجع وشاهدة على لهفة ام تبحث عن ابنها الذي لم يعد وفي تعابيرها الخوف من الجواب الصادم.
كلنا بكينا مع تلك الام ونحن نشاهد حرقتها على الشاشة وهي تتأبط المذيع كأنه جالب الخبر اليقين . تقول ام حمد العطار “الكل ساعدني الكل اهتم لي لكن مذيع lbc كان مختلفا اراد مساعدتي من كل قلبه اراد ان يطمئنني ولكن لا اطمئنان”.
حمد العطار من لا يعرفه ذاك الشاب العسلي العيون المدلل والمغنج الذي قضى ضحية في مرفأ بيروت حيث كان يعمل . وهو اب لعائلة من طفلين كان يعمل ايضا كسائق فان ليزيد دخله في هذه الايام الصعبة .
حمد العطار بات انشودة لكل ام فجعت بخسارة فلذة كبدها. الشاعر فارس اسكندر قدم اغنية تحمل وجع تلك الام وكلماتها تحت عنوان ” ابني حلو ” . هذه الاغنية القصيرة التي قدمها بصوته عزفا على البيانو مع عمر الصباغ تقول :
ابني حلو ومليح وعيونو عسلية
صرلي وقت عم صيح يا امي
ما جاوب علي
ما جاوب علي
ابني مغنج ومدلل
شايل همي ع اكتافو
قولولوا امك عم تسأل عنك
اذا حدا شافوا
ابنك الله بحبو والناس بتحلف وحياتو
ابنك عايش بقلبك
منو مع الماتوا…
-فارس الاسكندر: كلمات الأغنية اقتحمتني
يقول فارس اسكندر وهو تغالبه الدموع وصوته يختنق “هذه الأم التي ابكتني بقيت كلماتها تضج في رأسي، وتخبط على صدري الى ان خرجت بكلماتها وليست بكلماتي لأنها اصدق كلمات سمعتها. انها افضل ما قدمت وعبرت عنه ،لأن صرخة الام المجروحة التي تعيش وهلة خسارة ابنها كانت مؤثرة جدا وجرحها كبير جدا.”.
ويتابع اسكندر “كانت تحكي من طيبة وصدق لا يمكن ان ندرك علوه. كيف يعني تشير عن ابنها بأن عيونه عسلية ومدلل ومغنج . هل هناك اصدق من هذا ؟ هل يوجد اصدق من هذه الفطرة باتت تربيتها له دلالة على ميزات تفرقه من سواه.”.
يقول اسكندر “أنا لن اكتب عما يجري الان ولن اكتب عن بيروت الجريحة الان. فكلنا في حالة صدمة وكلنا في حداد ولا نستوعب ما هو حاصل . لكن كلمات هذه الأم اطبقت علي وصراخها ما كان خفت في صدري انا لم اقدم هذه الاغنية من اجل التشوّف بل جاءت لانها اقتحمتني اقتحاماً”..
وختم قائلاً “انا الآن في حداد ونحن قد خسرنا شهيداً رقيباً اول في الجيش أمّه تعيش حزن كبير خاصة وأنهم منعوها من فتحت التابوت . المآسي التي نحن فيها لا يتحملها شعب ولا انسان ولا اعرف كيف وصلنا الى من نحن عليه .”.
(أحوال ميديا)