سيدات الأفران أمهات مناضلات، قررن مواجهة الظروف الاقتصادية برغيف خبز. ولم يكن سهلاً على الحاجة هندية أن تقف في الفرن ساعات وهي التي بلغت سن التقاعد. ذات يوم جمعت حولها بناتها وقررن تأسيس منظومتهن الإقتصادية البسيطة، في زمن القلة. تؤمن بمقولة “العطاء قيمة”، وتردد دوماً: “خبز المرقوق اصالة الجدود”، وهي التي ترعرعت بين الصاج والحطب والعجين، حين كانت العائلة تعتمد على خبز المرقوق في طعامها. تتحدى الحاجة هندية كما بناتها صعوبات المهنة، فالصاج لم يعد حكراً على الكبار، بات مهنة كل باحث عن فرصة عمل، غير ان خبز الحاجة هندية “غير شكل ومن يتناوله مرة يتعلق به”.
داخل فرنها الصغير في النبطية تعمل العائلة بكاملها. تقر الحاجة السبعينية أن الخبز لم يعد يطعم خبزاً، نظراً إلى تراجع الطلب عليه، ولكنها تثق ان الحال سيتغير، مرت بالكثير من الظروف، وشاهدت ثورة الشعب في سبعينات القرن الماضي، وهذا يزيدها ثقة ان “الازمة ستمر بسلام”. ورغم ذلك تعيش قلقة من المرض لارتفاع كلفة الطبابة وغياب الضمان، وتجربتها في هذا المجال مرة اذ هي تعاني من قصور في القلب، خضعت بسببه لعملية قلب مفتوح، ومع ذلك لم تتنح عن عملها اليومي.
بفضل عملها نسجت الحاجة هندية وبناتها علاقات اجتماعية راقية داخل فرنها، حيث تعقد احياناً جلسات حول ثقافة الحوار الذي يحتاج اليه مجتمعنا. ضحكتها التي لا تفارق محياها تضاعف عدد محبيها: “الحياة تعلمك كيف تنشئ لغة حوار وتواصل متينة بين الناس، وهذه اللغة اجهد ان ابثها في حياة اولادي لان بناء مجتمع متين يبدأ من العائلة”.
منذ سنوات والحاجة هندية تعمل داخل فرنها، تتساعد مع عائلتها، تبدو “القائد” الذي يبرم الاتفاقيات الاقتصادية. توجه كل واحد الى عمله: “الأمومة علمتني ان اكون قائدة، توفي زوجي باكراً، فتحملت مسؤولية البيت من ناحية، والأمومة من ناحية اخرى”، وتضيف: “الامومة يا بنتي مش ولد وبس، الامومة تربية واخلاق وحكمة واذا ما زرعنا صح ما منحصد الا الفساد في بيئتنا”، خسرت احد ابنائها قبل سنوات ومنذ ذلك الوقت تعمل في الفرن تتحمل “لهيبه” وقساوته وتقابله بابتسامة تخفي خلفها حزناً كبيراً تتجاهل الحديث فيه: “حياة الفرن علّمتني أن اواجه كل التحديات بحكمة، اي مشكلة افكر فيها وأنا أرقّ المنقوشة، لانك في تلك اللحظة تفكر صح، بعيداً من الغضب الذي يقتل حياتنا، درّبت اولادي كيف يتحدون الصعوبات، اعطيتهم نصيحة: اذا بدك تفكر بحكمة احمل رغيف الخبز بتمعن”.
ام الولدين تقسّم وقتها بين عملها في المخبز وبيتها، لا تتأخر لحظة عن تخصيص وقت لتعليم ابنتها، لا تترد بالقول: “الفرن حياتي، نشأت داخله، فأنا اخبز منذ صغري”، تجهل ابسط حقوقها، ولا تعرف انه يحق لها الحصول على ضمان وتقاعد وفقاً لشرعة حقوق المرأة، الا انها تثق ان حقها في العمل تمارسه لتساعد زوجها في مصروف المنزل. وتقول: “المرأة وطن، والوطن عائلة، وان لم يكن الوطن قد اعطاها جرعة من حقوقها”.
(نداء الوطن)