«المبادرة الإصلاحية» التي «زفّها» رئيس المحاكم الجعفرية الشيخ محمد كنعان أخيراً، في شأن قضايا الحضانة والطلاق، لا تزال، في أحسن الأحوال، «فكرة» غير قابلة للتحقّق في الوقت القريب. أما في أسوئها، فهي ليست إلا محاولة للالتفاف على مطلب رفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية، خصوصاً أن «البنود الإصلاحية» إما غير قابلة للتحقق أو أنها أقل ممّا يمنحه الشرع للمرأة أساساً. «مبادرة» تبدو أقرب الى «بلفة» تبيع النساء من «كيسهنّ»
وكان كنعان أعلن في ندوة حول «رفع سن الحضانة في المحاكم الجعفرية،» نُظّمت في صور السبت الماضي، جملة «إصلاحات» ستباشر بها المحاكم «بعد أسبوعين» في ما يتعلق بقضايا الطلاق والحضانة، التي غالباً ما تكون أحكامها مجحفة بحق النساء. وأوضح أنّه سيُصار إلى اعتماد دفتر شروط يطّلع عليه الزوجان عند تسجيل زواجهما في المحكمة، يتضمن خيار توكيل الزوجة نفسها بالطلاق في حال امتنع الزوج عن الإنقاق عليها أو سجن لأكثر من سنة أو تغيب لأكثر من سنتين أو أساء معاملتها. كما أن لها أن تشترط الحضانة لأولادها حتى بلوغهم السن الشرعية أو سن البلوغ. «المبادرة» تضمّنت أيضاً تفعيل «نظام المأذونين» لحصر إجراء عقود الزواج والطلاق بمن تأذن لهم المحكمة بذلك، و«إطلاق لجنة خلال ستة أشهر في المحاكم الشرعية» تضم اختصاصيين نفسيين واجتماعيين وتربويين وأطباء، و«يكون رأيها الاستشاري شبه إلزامي للمحكمة»، أثناء النظر في قضايا الطلاق والحضانة.
بعيداً من «الحفاوة» التي لقيتها «المبادرة»، إلا أن تفنيدها يُظهر أنها أشبه ما تكون بمحاولة التفاف على مطلب رفع سنّ الحضانة للأم لدى الطائفة الشيعية (سنتان للذكر وسبع سنوات للأنثى).غياب الطابع الإلزامي
«ما بدّن يشترطو يصطفلو»، قال كنعان بشكل واضح، بعدما «زفّ» خبر عدم قبول أي عقد في المحاكم إلا بعد إطلاع الزوجين على دفتر الشروط. ويعني ذلك، باختصار، غياب الطابع الإلزامي لهذه الشروط، ما يعني أنّ «المبادرة» لم تأتِ بجديد، إذ إنّ «خيار الاشتراط في العقود المُلزمة موجود في الشرع الإسلامي… والمؤمنون عند شروطهم»، وفق ما يشرح السيد جعفر فضل الله، موضحاً لـ«الأخبار» أنّه «إلى حين نضوج آراء فقهية، يكون الاشتراط من الحلول الوسطى المهمة، لأنّ صدور قانون تنظيمي يمكن أن يخلق ثقافة جديدة، وهو أمر تحتاج إليه المجتمعات لمجابهة الحرج الاجتماعي الذي يشكل عائقاً أمام مبدأ الاشتراط». ورأى أنّ هناك صعوبة في تطبيق الإلزامية «لأنّها تتعارض مع كينونة الطرفين اللذين لا يرغبان في التوقيع»، لكنّه يشير الى «أهمية أن يصبح هذا الخيار عامّا كي يُصبح مقبولاً اجتماعياً في ما بعد»، مشيراً الى أن «الحلول الوسطى لا تُغني عن الحراك الفقهي المطلوب لفتح باب حركة اجتهاد مرنة بحسب كل حالة، لتحديد الآليات المرتبطة بالحضانة وغيرها».
بالعودة إلى الشروط التي تضمّنها الدفتر، فإنّها (وفق نسخة جرى تداولها) محصورة بحالات محددة (كأنّ يحق للمرأة توكيل نفسها بالطلاق إذا ضربها الزوج أو عنّفها بأي طريقة، شرط إثبات ذلك، على أن يكون ذلك سلوكاً مستمرّاً، فضلاً عن شرط غيابه عنها عامين وما فوق من دون علمها بحاله، وإذا سُجن لمدة عام وما فوق بجرم شائن كالقتل والسرقة والخيانة (…)»، علماً بأنه يحقّ لها، شرعاً، أن تشترط توكيل نفسها بالطلاق، ومن دون أي من هذه الشروط. والأمر نفسه ينطبق على موضوع الحضانة، إذ يضمن لها الشرع أن تشترط حضانة أطفالها من دون تحديد السنّ.
رئيسة حملة «رفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية»، زينة إبراهيم، رأت أنّ ما تم طرحه موجود أساساً في الشريعة «لا بل موجود بشكل منصف أكثر وأوسع. وهو ليس منّة من أحد». ووصفت خطوة كنعان بأنها «أشبه بمبادرة توعوية للفت نظر النساء الى حقوقهن، فيما دوره يتمثّل في إقرار تشريعات تنصف النساء بشكل أعمق بكثير». وخلصت إلى أن المطروح «ليس إلّا التفافاً على مطلب النساء الأساسي برفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية». وما يُعزّز هذه «الخلاصة»، وفق إبراهيم، هو رفض كنعان، أثناء الندوة، الإجابة عن أي سؤال يتعلّق بالحضانة.
لا غنى عن مجلس النواب
لم ينصّ دفتر الشروط على سنّ حضانة محددة، مكتفياً بالإشارة الى سنّ البلوغ تارةً، وعمر السبعة أعوام تارةً أخرى، علماً بأن لا وجود لنصوص دينية تحدد سنّ الحضانة، ويُشير الفقهاء الشيعة الى وجود روايات يختلف فيها العمر المحدد.
المحامي نجيب فرحات أكّد، في اتصال مع «الأخبار»، ضرورة وضع نصوص واضحة وملزمة للمحاكم تحدّد سن الحضانة، «ومثل هذا الإلزام لا يوفّره سوى نصّ يُقرّه مجلس النواب». وشدّد على وجوب تحقيق «الأمان التشريعي»، لأن غياب النصوص الواضحة من شأنه أن «ينجب» أحكاماً قضائية مختلفة، وبالتالي عدم المساواة بين المتقاضين في القضية نفسها. ولفت إلى أن مجلس النواب سبق أنّ شرّع سابقاً قوانين مرتبطة بالأحوال الشخصية لبعض الطوائف (قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية الصادر بتاريخ 24/2/1948 المُعدَّل العام 2017، والقانون رقم 177/2011 الذي عدَّل المادة 242 من قانون المحاكم الشرعيَّة الذي أجاز للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى إصدار نظام أحكام الأسرة لدى الطائفة السنيَّة المُتضمِّن رفع سن الحضانة).
رئيسة لجنة المرأة والطفل النيابية عناية عز الدين، من جهتها، شدّدت أيضاً، في اتصال مع «الأخبار»، على أن الإصلاحات تتطلب «مساراً متكاملاً له شقّ تشريعي في مجلس النواب بشأن قوانين مدنية تحفظ حقوق المرأة برؤية أوسع». وإذ لفتت إلى أن التعاون مع المرجعيات الروحية مطلوب، «لكن مسار الإصلاح يحتّم سياسات حكومية وقوانين مدنية».
إلّا أنّ هذا كله يبدو بعيداً جداً عن سياق «المبادرة الاصلاحية»، إذ إن كنعان كان صريحاً جداً عندما نبّه من أن أي تدخّل للدولة في هذا الأمر «من شأنه أن يهدّد العقد الموقّع بينها وبين الطوائف»! أكثر من ذلك، «نصح» رئيس المحاكم الجعفرية المعترضين على أحكام المحكمة بالخروج من «الملّة»، وإنشاء «طائفة خاصة» بهم!
نظام المأذونين: استحالة التطبيق؟
أما في ما يتعلق بـ«تفعيل نظام المأذونين» الذي قُدّم في سياق «ضبط عقود إجراء الزواج»، فإن المعطيات الواقعية تشي باستحالة تطبيقه. الشيخ مالك وهبي أوضح، عبر منشور فايسبوكي، أن ليس في الشريعة ما يُسمّى «مأذون في إجراء عقد الزواج أو إيقاع الطلاق»، لافتاً إلى أنّ الله «أذن لكل شخص أن يُزّوج شخصين. وأذن لطرفين أن يجريا عقد الزواج بينهما بلا وسيط. وأذن للزوج ولكل من يوكله الزوج في إجراء الطلاق»، فيما لفت فضل الله الى ضرورة التفريق بين «الزواج الشرعي» و«الزواج غير الرسمي»، مشيراً الى أنه «من الناحية الشرعية العقد يقوم بالطرفين الأصيلين، المرأة والرجل. ومن يجري العقد يكون وكيلاً عن أحد الطرفين. ويمكن لأي شخص يستوفي الشروط إجراء العقد».
الحديث عن الناحية الشرعية، هنا، ضروري للإشارة الى أن جزءاً كبيراً من أبناء الطائفة قد لا يلتزمون بالمأذونين طالما أنه لا يوجد إشكال من الناحية الشرعية. وحتى من الناحية التنظيمية، «سيصعب على المحاكم الجعفرية منع رجال دين من غير المأذونين من إجراء عقود القران»، وفق إبراهيم.
—
لماذا لا يتم الاقتداء بإيران والعراق؟
يخضع المسلمون الشيعة العراقيون لقانون مدني موحّد يحدّد سن الحضانة للأم بـ 12 عاماً، سواء كان الطفل ذكراً أم أنثى. أمّا في إيران، فلا يوجد سنّ محدّد. بل تقيّم كل حالة وفق مصلحة الطفل وأهلية والديه، وبناءً على تحقيق اجتماعي وتربوي ونفسي، ويتقرّر بعدها إعطاء الحضانة لمن تقتضيه مصلحة الطفل. لماذا لا يتم الاقتداء بهذين البلدين، خصوصاً أن المراجعيات الشيعية الكبرى منهما؟ يعزو رجل دين ذلك إلى «الالتزام العملي لقضاة المحاكم ببعض الفتاوى التابعة للمرجعيات الدينية». ويوضح أن «بعض القضاة يُقلّدون المرجع السيستاني، فغالباً ما يأخذون مشورته في غياب نصوص واضحة في لبنان. وكذلك الأمر لبقية المراجع الدينيين».
(الأخبار)